الحياة باللون الأبيض
تاريخ النشر:
٢٠١٦
تصنيف الكتاب:
الناشر:
عدد الصفحات:
٢٨٦ صفحة
الصّيغة:
٥٠٠
شراء
نبذة عن الكتاب
لطيفة هذه المرأة الشابة، تبتسم لي فكأن وجهها فطيرة قمح، شهية الرائحة، وكأن عينيها فيه قطرتا عسل صافٍ. لطيفة هذه المرأة الشابة. تكلمني متأدبةً، وتلمسني كما تلمس كأسًا من طقم سُفرتها، من تلك الأنواع العجيبة، غير المرئية من شدة شفافيتها؛ فهي تخشى أن تنخدش أو تتهشم عند أهون مسّ. بأدب رقيق يتنغّم صوتها «تفضل يا بابا»، «انتبه يا بابا»، «من هنا يا بابا».
لا تحب أن تُفلت يدي أو ذراعي كأنني كأس من طقم سفرتها، من تلك الأنواع الغبية، المتوافقة مع أحدث صيحات التكنولوجيا، التي لا تراها إلا إذا صُبّ فيها شراب، فترى الشراب كأنه معلقٌ في الهواء، لذلك لا أشرب منها شيئًا. لأن شرابها مكشوف للجن. والجن لا يُهدر وقته إذا رأى ماء عاريًا.
أنا أصر دومًا على الشرب من كوب خزفي قديم عثرنا عليه في مخزن متجر عتيق، لأنه كوب كما عرفتُ الكوب، وكما عرفه البشر منذ آلاف السنين. أحيانًا تهمس لي في غاية الحرج والرهافة: «بابا، أنا سلمى يا بابا»، وربما قالت سلوى أو ليلى، وربما قالت غير ذلك. لطيفة هذه المرأة الشابة.
صوتها يتعلق بي مثل نبي لا ييأس أبدًا من هداية البشر. صوتها هذا كأنني أعرفه من زمن بعيد؛ لا أدري كيف. أدري أن هذا الصوت يمد لي يديه، يريد بكل ما فيه من حياة أن يقول لي «ارجع إليّ يا بابا، ارجع أرجوك، ولك ما تريد؛ كل ما تريد. ارجع فحسب، لأجل خاطري، ارجع، سأحتمل كل ما لم أكن أحتمل منك. سأرضى بشقتنا البالية، سأرضى بعكازك المضحك وهيئتك العجيبة ومظهرك الرث.
ها أنا أقول لك بابا كما أردت دائمًا، وليس بابي كما كنتُ أصر أنا ومامي. ماذا تريد إذن أكثر من ذلك؟! ارجع أرجوك من هذه المتاهة. أنا، رغم كل شيء، أحبك. ثم إنني أخاف أن أدخل النار إذا بدر مني تقصير بحقك. أخاف أن يعذبني الله بسببك يا بابا. تسمعني يا بابا؟! تسمعني يا بابا؟؟».
لا أذكر هاتين العينين ولا هذا الصوت. أعرفهما وأعرفه لكن من بعيد. أحبهما وأحبه لكن لا أدري لماذا. لطيفة هذه المرأة الشابة، لولا أنني لا أعرف اسمها، ولولا أنني أتمنى لو أضربها كلما نطقت تلك الكلمة اللعينة «بابي». ما زلتُ أكره تلك الكلمة؛ فيها ميوعة ودلال مفسد للروح، ينطقها مُدّعو التحضّر وعبدةُ التكنولوجيا الأغبياء.
أما هي، المرأة الشابة، فمنذ صارت مراهقة اختارت أن تنضم للحزب العدو؛ حزب أمها التي اكتشفت أنني رجل متخلف عتيق الطراز منذ بدأ جسمها يترهّل، فأخذت ساقا الأرنبة الرشيقتان تمتلئان وتغلظان مثل وركي حمارة عجوز.
لا تحب أن تُفلت يدي أو ذراعي كأنني كأس من طقم سفرتها، من تلك الأنواع الغبية، المتوافقة مع أحدث صيحات التكنولوجيا، التي لا تراها إلا إذا صُبّ فيها شراب، فترى الشراب كأنه معلقٌ في الهواء، لذلك لا أشرب منها شيئًا. لأن شرابها مكشوف للجن. والجن لا يُهدر وقته إذا رأى ماء عاريًا.
أنا أصر دومًا على الشرب من كوب خزفي قديم عثرنا عليه في مخزن متجر عتيق، لأنه كوب كما عرفتُ الكوب، وكما عرفه البشر منذ آلاف السنين. أحيانًا تهمس لي في غاية الحرج والرهافة: «بابا، أنا سلمى يا بابا»، وربما قالت سلوى أو ليلى، وربما قالت غير ذلك. لطيفة هذه المرأة الشابة.
صوتها يتعلق بي مثل نبي لا ييأس أبدًا من هداية البشر. صوتها هذا كأنني أعرفه من زمن بعيد؛ لا أدري كيف. أدري أن هذا الصوت يمد لي يديه، يريد بكل ما فيه من حياة أن يقول لي «ارجع إليّ يا بابا، ارجع أرجوك، ولك ما تريد؛ كل ما تريد. ارجع فحسب، لأجل خاطري، ارجع، سأحتمل كل ما لم أكن أحتمل منك. سأرضى بشقتنا البالية، سأرضى بعكازك المضحك وهيئتك العجيبة ومظهرك الرث.
ها أنا أقول لك بابا كما أردت دائمًا، وليس بابي كما كنتُ أصر أنا ومامي. ماذا تريد إذن أكثر من ذلك؟! ارجع أرجوك من هذه المتاهة. أنا، رغم كل شيء، أحبك. ثم إنني أخاف أن أدخل النار إذا بدر مني تقصير بحقك. أخاف أن يعذبني الله بسببك يا بابا. تسمعني يا بابا؟! تسمعني يا بابا؟؟».
لا أذكر هاتين العينين ولا هذا الصوت. أعرفهما وأعرفه لكن من بعيد. أحبهما وأحبه لكن لا أدري لماذا. لطيفة هذه المرأة الشابة، لولا أنني لا أعرف اسمها، ولولا أنني أتمنى لو أضربها كلما نطقت تلك الكلمة اللعينة «بابي». ما زلتُ أكره تلك الكلمة؛ فيها ميوعة ودلال مفسد للروح، ينطقها مُدّعو التحضّر وعبدةُ التكنولوجيا الأغبياء.
أما هي، المرأة الشابة، فمنذ صارت مراهقة اختارت أن تنضم للحزب العدو؛ حزب أمها التي اكتشفت أنني رجل متخلف عتيق الطراز منذ بدأ جسمها يترهّل، فأخذت ساقا الأرنبة الرشيقتان تمتلئان وتغلظان مثل وركي حمارة عجوز.
إضافة تعليق
لم يتم العثور على نتائج