وحي القلم
الجزء الثالث
تاريخ النشر:
٢٠٢٣
السّلسلة:
تصنيف الكتاب:
الناشر:
عدد الصفحات:
٧٢٢ صفحة
الصّيغة:
٢٠٠
شراء
نبذة عن الكتاب
جاء في تاريخ الواقدي «أن «المُقوقس» عظيم القبط في مصر، زوّج بنته «أرمانوسة» من «قسطنطين بن هرقل» وجهّزها بأموالها حشمًا لتسير إليه، حتى يبني بها1 في مدينة قيسارية؛2 فخرجت إلى بُلبيس3 وأقامت بها … وجاء عمرو بن العاص إلى بلبيس فحاصرها حصارًا شديدًا، وقاتل من بها، وقتل منهم زهاء ألف فارس، وانهزم من بقي إلى المقوقس، وأُخذت أرمانوسةُ وجميعُ مالها، وأُخذ كلُّ ما كان للقبط في بلبيس. فأحب عمرو ملاطفة المقوقس، فسيّر إليه ابنته مكرّمة في جميع مالها، «مع قيس بن أبي العاص السهمي»؛ فسُرّ بقدومها …»
•••هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنيًّا إلا بأخبار المغازي والفتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية؛ أما ما أغفله فهو ما نقصُّه نحن:
كانت لأرمانوسة وصيفةٌ مولّدة تسمّى «مارية»، ذات جمال يوناني أتمته مصرُ ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصريًّا، ونقص الجمال اليوناني أن يكُونه؛ فهو أجمل منهما، ولمصر طبيعة خاصة في الحسن؛ فهي قد تُهمل شيئًا في جمال نسائها أو تُشعّثُ منه، وقد لا توفّيه جهد محاسنها الرائعة؛ ولكن متى نشأ فيها جمالٌ ينزع إلى أصل أجنبي أفرغت فيه سحرها إفراغًا، وأبت إلا أن تكون الغالبة عليه، وجعلته آيتها في المقابلة بينه في طابعه المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت؛ تغار على سحرها أن يكون إلا الأعلى.
وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته، وهو كان واليًا وبطريركًا على مصر من قبل هرقل؛ وكان من عجائب صُنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القُفل القبطي، فلم تكن أبوابهم تُدافع إلا بمقدار ما تُدفع، تُقاتل شيئًا من القتال غير كبير، أما الأبواب الرومية فبقيت مُستغلقة حصينة لا تُذعن إلا للتحطيم، ووراءها نحو مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على اثني عشر ألفًا. كان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم — ولم تكن المدافع معروفة — ولكن روح الإسلام جعلت الجيش العربي كأنه اثنا عشر ألف مدفع بقنابلها، لا يقاتلون بقوة الإنسان، بل بقوة الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة منفجرة تشبه الديناميت قبل أن يُعرف الديناميت!
ولما نزل عمرو بجيشه على بلبيس، جزعت4 مارية جزعًا شديدًا؛ إذ كان الروم قد أرجفوا أن هؤلاء العرب قومٌ جياع ينفُضُهم الجدبُ على البلاد نفض الرمال على الأعين في الريح العاصف، وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه، وأنهم غلاظ الأكباد5 كالإبل التي يمتطونها؛ وأن النساء عندهم كالدواب يُرتبطن على خسف،6 وأنهم لا عهد لهم ولا وفاء، ثقُلت مطامعهم وخفّت أمانتهم، وأن قائدهم عمرو بن العاص كان جزّارًا في الجاهلية، فما تدعُهُ روحُ الجزار ولا طبيعتُه؛ وقد جاء بأربعة آلاف سالخ من أخلاط الناس وشُذّاذهم، لا أربعة آلاف مقاتل من جيش له نظام الجيش!
وتوهّمت مارية أوهامها، وكانت شاعرة قد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقّد يشعرها كل عاطفة أكبر مما هي، ويُضاعف الأشياء في نفسها، وينزع إلى طبيعته المؤنثة، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وقودًا على الدم …
•••هذا ما أثبته الواقدي في روايته، ولم يكن معنيًّا إلا بأخبار المغازي والفتوح، فكان يقتصر عليها في الرواية؛ أما ما أغفله فهو ما نقصُّه نحن:
كانت لأرمانوسة وصيفةٌ مولّدة تسمّى «مارية»، ذات جمال يوناني أتمته مصرُ ومسحته بسحرها، فزاد جمالها على أن يكون مصريًّا، ونقص الجمال اليوناني أن يكُونه؛ فهو أجمل منهما، ولمصر طبيعة خاصة في الحسن؛ فهي قد تُهمل شيئًا في جمال نسائها أو تُشعّثُ منه، وقد لا توفّيه جهد محاسنها الرائعة؛ ولكن متى نشأ فيها جمالٌ ينزع إلى أصل أجنبي أفرغت فيه سحرها إفراغًا، وأبت إلا أن تكون الغالبة عليه، وجعلته آيتها في المقابلة بينه في طابعه المصري، وبين أصله في طبيعة أرضه كائنة ما كانت؛ تغار على سحرها أن يكون إلا الأعلى.
وكانت مارية هذه مسيحية قوية الدين والعقل، اتخذها المقوقس كنيسة حية لابنته، وهو كان واليًا وبطريركًا على مصر من قبل هرقل؛ وكان من عجائب صُنع الله أن الفتح الإسلامي جاء في عهده، فجعل الله قلب هذا الرجل مفتاح القُفل القبطي، فلم تكن أبوابهم تُدافع إلا بمقدار ما تُدفع، تُقاتل شيئًا من القتال غير كبير، أما الأبواب الرومية فبقيت مُستغلقة حصينة لا تُذعن إلا للتحطيم، ووراءها نحو مائة ألف رومي يقاتلون المعجزة الإسلامية التي جاءتهم من بلاد العرب أول ما جاءت في أربعة آلاف رجل، ثم لم يزيدوا آخر ما زادوا على اثني عشر ألفًا. كان الروم مائة ألف مقاتل بأسلحتهم — ولم تكن المدافع معروفة — ولكن روح الإسلام جعلت الجيش العربي كأنه اثنا عشر ألف مدفع بقنابلها، لا يقاتلون بقوة الإنسان، بل بقوة الروح الدينية التي جعلها الإسلام مادة منفجرة تشبه الديناميت قبل أن يُعرف الديناميت!
ولما نزل عمرو بجيشه على بلبيس، جزعت4 مارية جزعًا شديدًا؛ إذ كان الروم قد أرجفوا أن هؤلاء العرب قومٌ جياع ينفُضُهم الجدبُ على البلاد نفض الرمال على الأعين في الريح العاصف، وأنهم جراد إنساني لا يغزو إلا لبطنه، وأنهم غلاظ الأكباد5 كالإبل التي يمتطونها؛ وأن النساء عندهم كالدواب يُرتبطن على خسف،6 وأنهم لا عهد لهم ولا وفاء، ثقُلت مطامعهم وخفّت أمانتهم، وأن قائدهم عمرو بن العاص كان جزّارًا في الجاهلية، فما تدعُهُ روحُ الجزار ولا طبيعتُه؛ وقد جاء بأربعة آلاف سالخ من أخلاط الناس وشُذّاذهم، لا أربعة آلاف مقاتل من جيش له نظام الجيش!
وتوهّمت مارية أوهامها، وكانت شاعرة قد درست هي وأرمانوسة أدب يونان وفلسفتهم، وكان لها خيال مشبوب متوقّد يشعرها كل عاطفة أكبر مما هي، ويُضاعف الأشياء في نفسها، وينزع إلى طبيعته المؤنثة، فيبالغ في تهويل الحزن خاصة، ويجعل من بعض الألفاظ وقودًا على الدم …
إضافة تعليق
لم يتم العثور على نتائج